مريم حيدري... مسافرة أبديّة بين العربيّة والفارسيّة | حوار

مريم حيدري

خاصّ فُسْحَة - ثقافيّة فلسطينيّة

هذه الشاعرة تحبّ المتناقضات، ولا يمكن فصل هذا الحبّ عن المكوّنات المتناقضة، أو الطرق المختلفة، للدقّة، الّتي كوّنتها إنسانةً وشاعرةً وصحافيّةً ومترجِمة؛ ففي كلّ مرّة سيقبض المرء فيها على سمة أو شارة في هذا التكوين، سيلمحُ ضفافًا أخرى في جهة مقابلة. إن وجد في الشاعرة العربيّة الإيرانيّة مريم حيدري لغةً عربيّة فصيحة ومحكَمة ومتماسكة، فسيجد الفارسيّة تشاركها نهر الشعر واللغة والكلام. إن قرأ في قصيدتها تضاريس مفتوحة على المعاني الإنسانيّة، سيتقفّى آثار أكثر الأماكن حميميّة في الأهواز وطهران. وفي أكثر صورها حداثة تتلصّص روح الشعر الفارسيّ القديم وأصوات المتصوّفة الّتي لا تزال تتردّد في أذن مريم. لذلك؛ فلا جدوى من تقفّي منابع اللغة والثقافة والذوق عند صاحبة "باب موارب" (منشورات المتوسّط، 2018)، في الوقت الّذي سيموّه اتّساع آفاقها في الكتابة والقراءة والسفر والحياة ملامح هذه المنابع.

ابنة الأهواز، الّتي فتّحت عينيها وروحها على مكتبة بيتيّة ستصير كأنّها ألعاب هذه الطفلة، علّمت نفسها العربيّة وكتبت بها، فكان الشعر بابها إليها أو العكس. إنّ هوسها بالشعر جعلها لا تكتفي بتلقّيه وكتابته، بل بترجمته أيضًا، لما في ذلك من مشاركة قرّاء الفارسيّة على مائدتها المحتفلة بالقصيدة الّتي تمنحها المتعة، على حدّ تعبيرها. ثمّ تقدّم لنا حيدري نصوص اليوميّات الّتي قرأناها في صحف ومجلّات عربيّة، ربّما لتتضمّن كلّ هذا الولع باللغة والشعر، وهذا التاريخ الشخصيّ الممزوج بالعامّ، والمدن الكبيرة المعجونة بقصص الحياة الصغيرة.

كان لا بدّ لكلّ ذلك من أن يتفرّع، على شكل حديث طويل في فُسْحَة – ثقافيّة فلسطينيّة مع مريم حيدري.

 

فُسْحَة: فعل القراءة والكتابة بدأ عندك في الصغر بالفارسيّة؛ ما الّذي حدث في علاقتك باللغة العربيّة حتّى أصبحت لغة الشعر؟

مريم: ربّما يعود ذلك إلى الشعر قبل أن يعود إلى اللغات. عشقت الشعر منذ طفولتي، وأُولعت بالشعر الفارسيّ القديم. كنت أقرأ حافظ الشيرازيّ، وفي عطل المدرسة أحفظ قصيدة له كلّ يوم. ثمّ أخذني هذا الحبل إلى آخرين: الروميّ وعمر الخيّام وسعدي الشيرازيّ. انبهرت بالأدب الصوفيّ وبالنصوص الّتي تحوي الجمال الوجوديّ البحت، شعرًا ونثرًا. وبدأت بكتابة الشعر بالفارسيّة في الثانية عشرة. منذ طفولتي المبكّرة، كان أخي الأكبر الّذي ربطني به حبّ وقرب، يقرأ كثيرًا من الكتب العربيّة ويكتب بها الشعر. شيئًا فشيئًا أخذتْ مكتبته العربيّة تتّسع، فشملتني! تلك الكتب الّتي كان يجلبها إلى غرفتنا المشتركة، في بيتنا البسيط في الأهواز البعيدة عن كلّ الأمكنة، اجتذبتْني إليها. كان يسخر منّي مداعبةً وهو يراني منكبّة على قراءة الشعر الفارسيّ القديم، والاستماع إلى الموسيقى الّتي تصدح به، علمًا أنّ ديوان حافظ الشيرازيّ كان في حوزته أساسًا، وكنّا اشترينا ديوان عمر الخيّام معًا. شرع حبّي لتعلّم العربيّة الفصحى يكبر دون أن أبوح به. أصبحت العربيّة بالنسبة إليّ أمنية وتحدّيًا في الوقت ذاته. تلك النصوص الّتي قرأتُها في تلك الغرفة أو تحت شمس الأهواز في باحة بيتنا، من "ألف ليلة وليلة" حتّى نزار قبّاني ومحمود درويش، حفرت في قلبي هاجسًا، لم يَبْدُ هاجسًا حين أنظر إليه الآن من أعالي هذه السنوات الّتي مرّت، بل طريقًا قرّرت أن أسلكه، وكنت أشعر، وربّما أعرف، أنّه طريق يمتدّ إلى مدى حياتي. نتعلّم في المدارس في إيران كما تعلمين - وككلّ المواطنين الإيرانيّين - اللغة الفارسيّة. كنّا نتحدّث العربيّة باللهجة الأهوازيّة في البيت، إلى أن دخلتُ المدرسة. تعلّمتُ الفارسيّة وباتت لغة تفكيري وقراءتي وجزءًا كبيرًا من لغة أحلامي. في السنوات اللاحقة، سألت نفسي: لِمَ لا يمكننا أن نتعلّم العربيّة؟ لأسباب كثيرة. لغة أمّ لم نتمكّن من كتابة أولى كلماتنا بها. حسنًا! لِمَ لا أتعلّمها بنفسي حتّى لو كان تعليمها غير متاح؟ كنت أتصفّح وأقرأ معاجم اللغة القليلة المتوفّرة في البيت؛ متعة ما زالت معي. كان ثمّة كتاب "الصرف والنحو بلغة بسيطة" بالفارسيّة، تعلّمت منه القواعد العربيّة، فبدأت أبحث عمّا تعلّمته منه بين النصوص العربيّة. ثمّ جاء يومٌ كتبت فيه القصيدة العربيّة الأولى ببعض الكلمات البسيطة فقط. صديقتي الّتي كانت هي الأخرى عاشقة للعربيّة شجّعتني كثيرًا، أتذكّر أنّها قالت لي: "لو لم تقولي إنّها قصيدتك، لظننت أنّ شاعرًا كبيرًا كتبها". جملتها تلك كانت نسمة عليلة هبّت في ثنايا روحي الصغيرة، وما زالت تنعشني حتّى اليوم، وبعد مرور أكثر من عشرين عامًا على قولها. بعد مدّة من الزمن، تكوّنت جلسات أسبوعيّة في الأهواز تُدَرَّس فيها العربيّة بما فيها الأدب والفكر، يقوم عليها شباب محيطون باللغة وبشكل تطوّعي، فأخذنا نشارك فيها نحن الفتيات، لتتطوّر عربيّتي من هناك، وليزيد سعيي إليها. هكذا استمرّت كتابتي للشعر بالعربيّة إلى جانب الفارسيّة، إلى أن أتت سنوات غلبت العربيّة فيها، واستمرّت حتّى اليوم.

 

فُسْحَة: قد يجد المرء رابطًا قويًّا بين نقاء قصيدتك والإرث الشعريّ الصوفيّ، الّذي تأثّرتِ به وترجمته؛ كيف ترين تأثير هذا الإرث فيكِ شاعرةً وإنسانةً؟

مريم: لقد قيل لي من قبل إنّ ثمّة لمسات من أثر الصوفيّة في قصيدتي ونصوصي عمومًا، ربّما مَنْ يقرأ قصيدتي يشعر به أكثر منّي. وفي الحقيقة، كيف لا يكون بعض من هذا الأثر وأنا أمجّد الأدب والتراث الصوفيّ، منذ بدايتي في القراءة بشكل واعٍ حتّى الآن، وما زلت أستمتع بقراءته. الأدب الصوفيّ والصوفيّة تجربة حرّة وحقيقيّة فريدة في تراثنا، وحبّي إليها الأمر الوحيد الّذي لم يتغيّر ولم يرتخِ. كنت على أنماط وأشكال مختلفة ودخلت أطرًا كثيرة وخرجت منها، فكريًّا وأدبيًّا وأيديولوجيًّا، إلّا أنّني ما زلت أرى أنّ التصوّف تجربة أظهرت حرّيّة الفكر وتحرّره وموضوعيّته ورشاقته وانطلاقه، حتّى في بعض الأمور الصغيرة في الحياة أرى أنّ ثمّة أثرًا من ذلك الانبهار الأوّل والتأثير شبه الأزليّ للصوفيّة فيّ، حين أدرك أنّ العالم زائل ويجب ألّا يُقَيَّم إلّا بالحبّ. يقول جلال الدين الروميّ: "لا تأخذ العمرَ الّذي ذهب بلا حبّ في الحسبان/ إنّه ماء الحياة، فتقبّلْه بقلبك وروحك". يقول ابن عربيّ: "أدين بدين الحبّ أنّى توجّهت/ ركائبُه …"، ثمّ كلّ ما أكّده الخيّام باغتنام اللحظة والاستمتاع بها. كلّ هذه التوصيات والتعبيرات جعلتني أدرك قيمة الحبّ والحياة. أتذكّر حتّى عند مراهقتي حين كنت أقرأ سيَر الصوفيّين وتأكيد نحافتهم وألوانهم الشاحبة، أخذت - بطفوليّة بريئة - أحبّذ أن أكون نحيفة وشاحبة مثلهم. هذا فضلًا على أنّ قراءة تلك النصوص تترك فيّ أثرًا لا يضاهيه دور الموسيقى أو اللجوء إلى الطبيعة أو الجلوس أمام الأطبّاء النفسانيّين، كما يفعل أشخاص من حولي؛ يكفي أن أقرأ بعض السطور من النفّري أو من رسائل عين القضاة الهمداني، أو بعض الجمل من تفاسير القرآن الّتي كُتِبَتْ بالفارسيّة البليغة قبل قرون عدّة، حتّى أعود إلى إدراكي بأنّ "ما كان العمر إلّا الساعةَ ذي"، كما قال شمس الدين التبريزيّ.

 

فُسْحَة: لكن أيّ اللغات هي الأقرب إليك؟ وإن كتب العربيّ شعره بالعربيّة الفصحى، تظلّ العامّيّة العربيّة لغة أخرى حميمة وقريبة، وأنت؟

مريم: وإن كانت العامّيّة لغة حميمة إلّا أنّني أرى أنّ العربيّة المُثلى هي الفصحى. لست من هواة ما هو بسيط ومرن. العربيّة الفصحى ألوذ إليها، يحلو لي أن أتحدّث بها بين حين وآخر، أو أقتبس بعض الجمل المتشكّلة في أطرها حتّى حين أتحدث العامّيّة. فضلًا على ذلك، في التمرين على ترويض اللغة - وربّما أيّ شيء آخر - متعة لا نجدها في السهولة. العربيّة الفصحى بالنسبة إليّ أجمل لغات العالم، قراءةً واستماعًا وكتابة. كثيرًا ما يُقال لي هنا في إيران: كيف يمكن لغةً أن تمنح المستمع هذا الوجد دون أن يفهمها؟ أفهمهم وأصدّقهم، والوصول إلى هذا الشعور يحتاج إلى نضج في السمع وفي التعامل مع اللغات.

 

فُسْحَة: وبأيّ لغة تحلمين؟

مريم: وفق ما أحلم به ومَن أحلم به. تتغيّر اللغتان في أحلامي دائمًا. يتبيّن لي ذلك حين أستذكر أحلامي أو أرويها للآخرين. مسافرة أبديّة أنا بين العربيّة والفارسيّة، ولا تُستثنى الأحلام من ذلك.

 

فُسْحَة: هل ترتبط القصيدة المكتوبة باللغة العربيّة في رأيك – بالضرورة - بالجغرافيا العربيّة والتاريخ العربيّ؟ هل ثمّة فِكاك من المكان والزمان العربيّين في القصيدة؟

مريم: لا أظنّ أنّ هذا الأمر يتعلّق بالعربيّة فقط. أيّ لغة في العالم لا يمكننا الإشارة إلى أدبها دون أن يكون متضمّنًا لتاريخ تلك اللغة، وأفرادها، وجغرافيّتها، والأرض أو الأراضي الّتي ينتمون إليها؟ ثمّة شعراء يشغلهم الأمر أكثر من الآخرين، فيظهر ذلك جليًّا في نصوصهم، وثمّة مَنْ لا يظهر لديهم، والأمر قد يكون إراديّا أو لاإراديًّا.

 

فُسْحَة: من الصعب، أيضًا، سلخ القصيدة العربيّة المعاصرة عن صوت الحرب والتجارب التاريخيّة الجمعيّة، مهما كانت القصيدة مشغولة بما ينأى عن كلّ ذلك. قصيدتك تنجح في خلق مزاج شعريّ نقيّ ونظيف من هذه الأصوات؛ كيف؟

مريم: إن كان كذلك فسأشعر بالسعادة، رغم أنّني أحببت أحيانًا أن أكتب عن الحرب أو الحروب، فهي بالنسبة إلينا جميعًا، سكّان هذه البقعة من الأرض، أمر ممزوج بحياتنا. وبالنسبة إليّ، المولودة في خضمّ الحرب، أمر وجوديّ. لكنّني لطالما فكّرت أنّني ينبغي لي ألّا أكتب عن الحرب، إلّا عندما أستطيع أن أكتب عنها دون أن يكون النصّ لها وعنها فحسب. ربّما لم يحنْ بالنسبة إليّ ذلك الوقت، أو لمّا تلحّ الكتابة عنها بعد. في نثري ظهرت الحرب، ولكن في الشعر ليس بعد. ثمّ شكرًا على الإطراء يا أسماء.

 

فُسْحَة: العفو. نظلّ في قصيدتك، يجد القارئ بين سطورها سيَر مكانيّة، تُضاف إلى سيرتك الشخصيّة. يقرؤها كذلك، وهي مرئيّة، في يوميّاتك الّتي تكتبينها في أثناء رحلاتك بين المدن المختلفة. ماذا يمنحك السفر والمكان؟ وكيف يجد له مكانًا في كتابتك؟

مريم: أنا مسافرة أبديّة في هذا العالم، هكذا عرّفتُ نفسي، ولا سيّما في السنوات الأخيرة. حين أمكث بعض الأسابيع في مكان ما، وغالبًا ما يكون البيت، دون أن أغادره إلى مكان آخر، أشعر بأنّ ثمّة أصواتًا تناديني، أصوات ليست هنا، بل هناك، هذا الـ "هناك" يشكّل لديّ المدينة الفاضلة، حتّى لو كانت مكانًا لا يحتمله أهله. بنظرة طوباويّة أتّجه نحو المدن والأمكنة، وفي كلّ واحدة منها أرى نصًّا جديرًا بالقراءة؛ ألم يرَ فالتر بنيامين أنّ المدن عبارة عن نصوص؟ ما أكتبه عن هذه الأمكنة تجلٍّ عاطفيّ وشخصيّ وشهوديّ، وأتمنّى أن يكون واعيًا أيضًا لما أقرؤه في تلك النصوص، المليئة بالإنسان والشوارع والأحاديث والحيوات المختلفة والشبيهة فحسب، شعرًا كان أو مقالات. ضرب من التناصّ بين المكان الّذي هو النصّ الأساس والنصّ الّذي يُكْتَب.

 

فُسْحَة: ألا ترين معي أنّ المشهد الكتابيّ العربيّ المعاصر لا يولي أهمّيّة كبيرة لكتابة اليوميّات؟ فقد ارتبطت لدينا بشخصيّات سياسيّة وتاريخيّة بارزة، وأُهْمِلَتْ حين نتحدّث عن أشخاص "عاديّين"، كتّابًا كانوا أو شعراء؛ كيف تنظرين إلى هذه المسألة؟ وماذا تعني لك كتابة اليوميّات؟

مريم: لا أظنّ أنّ الأمر يتعلّق فقط بالمشهد العربيّ المعاصر، هذا ما يحدث في الفارسيّة أيضًا، وفي العالم عامّة. ثمّة نصوص لامعة كُتِبَتْ من قبل في أدب اليوميّات، كنصوص سوزان سونتاغ مثلًا، لكنّ الأمر ما زال يحتاج إلى اهتمام أكثر. ربّما مواقع التواصل أتاحت الفرصة لكتابة اليوميّات، إلّا أنّها في رأيي لا تمثّل كتابة جديرة بالخلود في هذا المجال. أن نكتب اليوميّات لا يعني أنّنا نكتب عمّا يحدث يوميًّا في حَيواتنا فحسب، بصيرة ونظرة ثاقبة وشعور فطن ينبغي أن نملكه أو يملكنا، حتّى تصبح هذه النصوص ذات قيمة. كتابة اليوميّات بالنسبة إليّ أن أشغل برهةً من يومي، لأفرغ فيها ما لديّ من كلام حميم على شاشة مضاءة ورحبة، بدل أن أبوح به بصوتي لآخرين قد يحبّون أو لا يحبّون أن يسمعوه، ثمّ آخذ نفسًا عميقًا، وكأنّني انتهيت من كتابة قصيدة قصيرة، هو الوصول إلى الفراغ والامتلاء في نفس الوقت، ولطالما راقت لي المشاعر المتناقضة.

 

فُسْحَة: هل تدفعك كتابة السرد في اليوميّات إلى التفكير في كتابة القصّة القصيرة أو الرواية؟ وكيف تتعاطين بعامّة مع هذه الأشكال؟

مريم: أفكّر دائمًا في أنّني ذات يوم سأكتب القصّة القصيرة. الرواية لم أفكّر في كتابتها كثيرًا، لكن تستهويني القصّة القصيرة منذ وقت لا أذكره. لم أكرّس لهذا الهوس وقتًا حتّى الآن؛ لأنّني طالما قلت لنفسي إنّ الشعر مصدر سعادتي، واجبي، وما تقتات روحي منه لتقوى على الطيران. حين أُسأل "أيّ السعادات أكبر بالنسبة إليك؟" أجيب: "حين أنتهي من كتابة قصيدة". هذا رغم أنّ ما قرأت من سرد طوال حياتي أكثر كثيرًا من الشعر. أرى في نفسي بعض القدرة على خلق قصص ممّا يدور حولي وفي حياتي، والخوض في شيء من السرد حين أكتب اليوميّات، لكنّ هذا لا يكفي لكتابة القصّة. أواصل كتابة اليوميّات إلى أن يحين وقت القصّة، وإن لم يحن فلا بأس في ذلك.

 

فُسْحَة: ترجمتِ شعراء عربًا إلى الفارسيّة مثل محمود درويش وسركون بولص وغيرهما؛ حدّثينا عن ذائقتك مترجمةً، ما الّذي يدفعك إلى ترجمة شعر دون آخر؟ وإلى أين يتّجه مشروعك في الترجمة؟

مريم: أن يكون للشاعر عالمه الخاصّ، وأن يكون صوتًا خاصًّا بنفسه، دون سواه، وأن يدهشني بذلك العالم؛ تلك صفة تشدّني إلى الشعراء الّذين أحبّ وأختار نصوصهم للترجمة. وفي الأساس حين أقرأ قصيدة تمنحني تلك المتعة المنشودة والمحبّبة من قراءة النصّ وعوالمه؛ تلك العوالم الّتي تقع خلف الواقع الّذي نعيشه وإن كُتَبَ عن الواقع. حين لا يكون الشاعر مطمئنًّا ومتأكّدًا في قصيدته، ويزلزل الإيمان الكاذب بهذا العالم بالكلمات، يصبح شاعرًا بالنسبة إليّ. ربّما كلّ شيء يعود إلى ذلك البرزخ الّذي يأخذنا إليه الشعر، "برازخ الإيمان"، وفق تعبير أجدادنا العرب المولعين بالكلمات، أمكنة يأخذني إليها شعرائي المفضّلون، كمحمود درويش وسركون بولص ونوري الجرّاح من المعاصرين العرب، وبعض الإيرانيّين كشاعرتي المفضّلة فُروغ فَرُّخ زاد، وشعراء الحركة الأصيلة الّتي سُمّيت بـ "الشعر الآخر" في إيران، وظهرت في سبعينات القرن المنصرم، وآخرين من العالم كأوكتافيو باث وإليوت وبازوليني. ببساطة، تأتي ترجمة أيّ نصّ بعد الشعور بمتعته، والرغبة في مشاركة الآخرين غير العارفين باللغة المترجَم منها في تلك المتعة، سواء كان النصّ عربيًّا أو فارسيًّا أو إنجليزيًّا، ثمّ أهمّيّة معرفة ذلك الشاعر بالنسبة إلى قرّائه في اللغة المترجَم إليها. على سبيل المثال، حين اخترت قبل عشر سنوات "أثر الفراشة" لمحمود درويش للترجمة، كان لسبب أنّه كان يُعرف في إيران شاعرَ المقاومة فحسب. كنت أريد أن يعرف القرّاء بالفارسيّة وجهه الآخر والأخير: شاعر الإنسان. أمّا سركون بولص فهو صوت شعريّ فريد في الأدب العربيّ المعاصر، وله عالمه الخاصّ بصوره غير المألوفة وشخوصه وإيقاع قصيدته؛ فكان لا بدّ من أن يتعرّف عليه الإيرانيّون وغيرهم من القرّاء بالفارسيّة.

 

فُسْحَة: ثمّة مَنْ يقول إنّ الاهتمام بترجمة الأعمال الأدبيّة العربيّة المعاصرة في إيران قليل، وإنّ سبب ذلك يعود إلى وجود عدد قليل من المترجمين من العربيّة إلى الفارسيّة؛ كيف ترين هذه المسألة؟ وما السبب في رأيك وراء وهن الجسور بين النصّين واللغتين؟

مريم: الترجمة من العربيّة إلى الفارسيّة، كمًّا على الأقلّ، تتجاوز الترجمة من الفارسيّة إلى العربيّة، وهذا أمر لا يثير استغرابي؛ بسبب وجود العدد الكبير من الشعراء والكتّاب العرب مقارنة بالإيرانيّين. وإن تحدّثنا عن غنى الأدب، الّذي أراه أكبر أيضًا لدى العرب. ونتحدّث هنا عن الأدب المعاصر؛ فالقديم منه كان قريبًا، ومتأثّرًا بالآخر ومجاورًا له، ومستمدًّا منه بشكل موضوعيّ أكثر من الآن؛ فمن المعروف أنّ سعدي الشيرازيّ قد تأثّر كثيرًا بالمتنبّي، وبدرجة أقلّ منه تأثّر حافظ الشيرازيّ بابن الفارض. في المقابل، أصبحت الترجمة من العربيّة إلى الفارسيّة تأخذ في الاتّساع في السنوات الأخيرة، مقارنةً بعشر سنوات إلى الوراء. تُرْجِمَتْ روايات عربيّة حاصلة على "البوكر" العربيّة وغيرها، كما أنّ شعراء لم يُتَرْجَموا من قبل، قرأهم القرّاء الإيرانيّون حديثًا، وهذا الإقبال على ما هو عربيّ وحديث، مشهود أكثر في تداول الأغاني العربيّة والموسيقى العربيّة بعامّة، بين الشباب الناشطين في الأدب والفنّ في إيران، ولا سيّما بعد الثورات العربيّة، حتّى تكاد تصبح هذه الأيّام "موضة" في "إنستغرام"؛ أن يذيّل البعض صورهم وفيديوهاتهم بتعليق عربيّ مقتبس من قصيدة أو أغنية عربيّة. لا ننسَ وجود نظرة عنصريّة لدى الإيرانيّين - الفرس منهم - تجاه العرب، وهي ليست جديدة، إلّا أنّها توطّدت في بدايات القرن الماضي، بعد حركات وأفكار تشجّع على حفظ الهويّة الفارسيّة من قِبَل رؤساء وكتّاب ومفكّرين. هذه النظرة أراها أخذت تتبدّد في السنوات الأخيرة، وإن كانت ضئيلة وتحتاج إلى رحابة أكثر. وفي كلّ الأحوال، إن لم يقرأ الإيرانيّون أدب جيرانهم، وإن لم يقتنع كلٌّ من الطرفين بأنّ قراءة الآخر الجار أهمّ من قراءة الغرب، فمَنِ الخاسر؟ ثمّ تجب الإشارة إلى أنّ طريقة تعليم العربيّة في المدارس الإيرانيّة، الّتي تركّز على القواعد والنحو، جعلت الشباب في إيران يهربون من العربيّة، ويرونها لغة غليظة وصعبة وغير حاوية للجمال، ثمّ إنّ طريقة قراءة العربيّة في المدارس لم تجعل التلاميذ يلمسون روعة هذه اللغة في الإيقاع. وبالنسبة إلى المترجمين من العربيّة إلى الفارسيّة، أصبح عددهم يرتفع يومًا بعد يوم، بعد أن كان يقتصر على عدد لا يتجاوز أصابع اليد الواحدة في العقود السابقة، وهم مترجمون من العرب الإيرانيّين ومن غير العرب. ربّما لأنّ الترجمة من العربيّة إلى الفارسيّة أسهل، ومَنْ يتقنون الكتابة بالعربيّة أقلّ عددًا مقارنة بمن يتمكّنون من الكتابة بالفارسيّة، وهذا أمر طبيعيّ أن يحدث في إيران.

 

فُسْحَة: حصلت ترجمتك ليوميّات "ذكرياتي: يوميّات تاج السلطنة" على "جائزة ابن بطّوطة لأدب اليوميّات". ما الّذي أردتِ أن تنقليه، من خلال الكتاب، إلى القارئ العربيّ؟ وهل هي صورة أثيرة لديك عن إيران في ذلك العصر؟

مريم: تلك الفترة - القاجاريّة - الّتي حكمت إيران فيها السلسلة القاجاريّة، فترة حاسمة في تاريخ إيران؛ امتدّ حكم هذه السلسلة الملكيّة من نهايات القرن الثامن عشر حتّى بدايات القرن العشرين، وفي نهايات هذا الحكم تعرّف الإيرانيّون الحداثة، وبدأت حركات تدعو إلى التحرّر وبدء حياة جديدة، مثلها مثل كثير من البلدان في المنطقة والعالم. السبب الثاني الّذي دفعني إلى ترجمة هذا الكتاب أنّ الكاتبة امرأة، وهي بنت الملك ناصر الدين شاه القاجاريّ. من خلال سردها لسيرتها، يمكننا أن نطّلع على ما كان يجري في إيران خلال تلك الفترة، من حركات اجتماعيّة وسياسيّة، ونظرتها تجاهها، وهي كانت من أولى النساء الإيرانيّات الداعيات إلى التحرّر، ثمّ نستكشف وضع المرأة في إيران آنذاك، وفي نفس الوقت وضع المرأة في البلاط الملكيّ. السبب الثالث هو رغبتي في قراءة السيَر واليوميّات، وقد تعرفين أنّ ("ركز ارتياد الأدب العربيّ" الّذي يُصدر سنويًّا كثيرًا من الكتب الخاصّة بالرحلات القديمة منها والجديدة، ويطلق "جائزة ابن بطّوطة لأدب الرحلة"، قد خصّص قسمًا لليوميّات، وهذا أمر مهمّ وجدير بالتقدير. أتعاون مع هذا المركز منذ ما يقارب عشر سنوات، فجاءت ترجمتي لهذا الكتاب للمشاركة في عمل في هذا القسم، إلى جانب الأسباب الّتي ذكرت.

 

فُسْحَة: حدّثينا عن الأهواز، مكانك الأوّل. أنا مثلًا لا أستطيع زيارة إيران؛ فأراها عبر السينما والأدب. ماذا تركت فيكِ؟ أيّ ذكريات كوّنتها معها؟

مريم: الأهواز أمّي. المكان الأوّل الّذي جعلني أكتب، والأوّل في تجربة الحبّ، والهجر، وأولى الصداقات، وأوّل التمرّدات، وأولى الأمنيات، وأوّل الأحزان، وأولى المسرّات. رغم أنّني أقيم في طهران منذ أكثر من عشر سنوات، لكنّ الأهواز حاضرة معي، وكيف تغيب؟ حتّى بالنسبة إلى السينما، فهناك شاهدت أوّل الأفلام للمخرجين الّذين منحوني تلك الرؤى الواسعة للحياة. هناك جلستُ لأشاهد أفلام روبير بريسون وبازوليني وتاركوفسكي، وهناك أعدتُ مشاهدتها مرّات عدّة. أينما أقمتُ، سواء في طهران أو في أيّ مدينة أخرى، فكلّ شيء يكون امتدادًا لما كنتُه وتكوّنتُ على شاكلته في الأهواز. أحبّ من المدن في إيران نيشابور، وأستطيع أن أجلس ساعات طويلة في تلك الساحة الجميلة المحاطة بأشجار السرو، وبالقرب من مرقد عمر الخيّام وعطّار النيشابوريّ؛ جمال كلٍّ من يَزد وأصفهان وشيراز لا يُضاهى، لكن كلّ هذه المدن ليست الأهواز بالنسبة إليّ. لا يتربّع في وسطها ذلك النهر الحزين الخارج من الأساطير، كارون، الّذي شهد أوّل مواعيد الحبّ، ونظرات أولئك العشّاق الأبرياء الّذين لم يريدوا إلّا نظرة عاشقة بريئة فحسب؛ أناس قيمتهم الكبيرة أن يحبّوا الآخرين دون أن يعوا ذلك، وأن يُطْعِموا ضيوفهم أفضل ما يستطيعون؛ نساء يبكين على رجال أخذتهم الحروب أو هجروا مدينتهم رغم حبّهم لها؛ أجمل النساء اللواتي رأيتهنّ في حياتي، وأجمل الرجال. ثمّ لا يمكنني إيجاد مثل تلك الشوارع الملتهبة من الشمس، الّتي لم أُرِد العودة منها إلى البيت، بعد نهار طويل من اللعب وأنا طفلة، في أيّ مكان آخر على هذه البسيطة. أمّي لم تستطع احتمال البقاء خارج الأهواز لبضعة أيّام. أنا - خلافًا لها - استطعت وأستطيع، لكن المدينة الّتي أحملها في قلبي أينما رحلت هي الأهواز.

 

فُسْحَة: من بين هؤلاء الناس، تكتبين كثيرًا عن الأصدقاء؛ كيف تصنعين الصداقات؟ وماذا تعني لك الصداقة؟

مريم: الصداقات؛ أنا لا أصنعها حقيقة، بل تُولد وتتكوّن في حياتي، كما ولادة أيّ شيء جميل في العالم وكبزوغ الشمس. الأصدقاء والصديقات في حياتي هم عائلتي الكبيرة، يكفي أن أفكّر فيهم حين يضيق العالم حتّى يطمئنّ قلبي، وتنفتح الآفاق. يكفي وأنا جالسة في بيتي أن أكتب لهم: "تعالوا"؛ ليأتوا وتبدأ أكثر لحظات العالم سعادة وحبًّا وإنسانيّة. يكفي أن أكتب لصديقة بعيدة: "أفكّر فيك"، فتردّ عليّ: "أنا أتذكّرك كلّما رأيت الشمس في الصباح"، فيتّسع قلبي لحُبِّ العالم إلى ما وراءه.

 

فُسْحَة: نختم بشعرك، تكاد تكون جميع قصائد مجموعة "باب موارب" موجّهة إليه هو. هل ترين أنّك تتمتّعين بالحرّيّة الّتي تتخيّلينها في الكتابة عن "العلاقة بالرجل" وما يتفرّع منها؟ أحيانًا أشعر بأنّ الكثير من الشاعرات اعتدن الهوّة الموجودة بين حرّيّتهنّ وقصيدتهنّ، فأصبحت الهوّة غير مُدْرَكَة بالنسبة إلى الكثير منهنّ.

مريم: إن كنت أريد قول الحقيقة، أو إن كنتِ تريدينه منّي: لا، لكن ما لا أكتبه عن العلاقة بالرجل، لا يعني أنّه ينبغي أن أكتبه. أعترف أنّني ما زال فيّ بعض الخجل الشرقيّ في التعبير عن الحبّ تجاه الرجل، وكيف يمكن التخلّص منه؟ ولِمَ يجب التخلّص منه؟ ما زالت فيّ جذور بدويّة، لكنّها لا تُشْعِرُني بالإحراج أو الغضب، أحيانًا أتجاوزها في قصيدتي، دون أن أعي، وأحيانًا تبقى مشهودة؛ ففي النهاية القصيدة هي المساحة الفسيحة للحرّيّة الّتي لم يتمتّع بها الشاعر – أو الشاعرة - في حياته الواقعيّة. عمومًا لا يشغلني التعبير عن علاقتي بالرجل في القصيدة، رغم أهمّيّتها، أكثر ما يشغلني الشعر نفسه، وإن كان الرجل حاضرًا في كثير من قصائدي؛ إنّه أمر لا يسعدني ولا يؤذيني.

 

 

أسماء عزايزة

 

شاعرة وصحافيّة. حاصلة على البكالوريوس في الصحافة والأدب الإنجليزيّ من جامعة حيفا. لها ثلاث مجموعات شعريّة؛ "ليوا" (2010)، و"كما ولدتني اللدّيّة" (2015)، و"لا تصدّقوني إن حدّثتكم عن الحرب" (2019). تشارك في أنطولوجيّات ومهرجانات شعريّة في العالم. تُرجمت قصائدها إلى لغات عدّة. عملت لسنوات في الصحافة المكتوبة وفي التلفزة. تدير حاليًّا "فناء الشعر"، وهي مبادرة مستقلّة أسّستها عام 2017. تكتب في عدد من المنابر العربيّة.